dimanche 12 août 2007

Mohand allah Youlal une histoire sur ça tete - una historia que contar



اسمه الحاج محند علال يولال، وتستطيع منذ الوهلة الأولى أن "تقرأ" تاريخ المغرب الحديث مسطورا على ملامحه، حتى بدون أن ينبس ببنت شفة.
هذا رجل ينيف عمره على القرن من الزمان، وما يزال مجذاف العمر يمخر عباب الزمان بثقة وتفاؤل بهيجين.
وكأن سطوة الأيام والليالي عاجزة عن أن تقهر حيوية ويفاعة الوجدان، وإن أبلت الجلدة الخارجية وأوهنت العظم. شيخوخة - شابة تتعامل مع دنياها كأنها حية أبدا ،ومع أخراها كأنها راحلة غدا .ورغم رحلة العمر الطويلة، ما يزال الرجل يمشي على قدمين ويسمع بأذنين ويرى بعينين .وما يزال يؤدي واجباته الدينية والدنيوية، كاملة غير منقوصة. وأكثر من هذا، ما يزال يمتلك ذاكرة "موشومة "وحية تستعيد الأمس البعيد، بدقائقه وتفصيلاته، كأنها جهاز تسجيل من لحم ودم .إنه يستطيع، مثلا، أن يتذكر عدد كؤوس الشاي التي شربها في جلسة مع عبد الكريم الخطابي، في عشرينيات هذا القرن، ومذاق هذا الشاي ودرجة حلاوته. هذا في الوقت الذي لا نستطيع فيه، نحن أحفاده وأحفاد أحفاده، أن نتذكر ما حشرناه في بطوننا وعقولنا البارحة، وما فعلناه أو قلناه البارحة .ربما، لأننا جيل بلا أفعال، ولا وزن لما تلوكه ألسنتنا من أقوال .وأخشى أن أقول، إننا جيل بلا ذاكرة!
هذا الرجل هو جدي لأمي، فرحته الأولى وفرحتي الباقية.
عاصر أهم ثورات وحروب وكشوف العصر الحديث، وعاصر في الدرجة الأولى التي تعنيه وتعنينا هنا، ثورتين ماجدتين ورائدتين .هما ثور الشريف محمد أمزيان، وثورة محمد عبد الكريم الخطابي.
هل قلت عاصرهما؟! بل شارك فيهما بعضله وعصبه، وأبلى فيهما بلاء حسنا ما تزال أصداؤه تتردد حية في ذاكرته ووجدانه، وتعطيه هذه الثقة وهذا التفاؤل البهيجين بالحباة.
هذا الرجل / الذاكرة إذن، هو أحد الجنود المجهولين الذين أدوا دورهم بصمت ونكران الذات، تاركين لـ "موظفي" المقاومة اقتسام الأمجاد والبطائق والغنائم. وهو بالنسبة إلي ليس جدا "عائليا "فحسب، بل هو جد "تاريخي" بمعنى الكلمة .إنه الذاكرة الحية المستعادة التي تتقراها الحواس الخمس، في زمن "غسل" الذاكرة وإبادتها وإفراغها من محتواها.
وفي كل مرة أجالسه فيها، أحس في قرارتي أني مركوز في أرض وتاريخ وهوية، رغم كل محاولات الاقتلاع والابتلاج. وما أحوجنا في هذا الزمن الدائخ السائب إلى استعادة الذاكرة المفقودة وصيانتها من التلف والتزييف! ما أحوجنا إلى تاريخ ما أهمله التاريخ!
الحاج محمد علال يولال. وجه أثري أصيل من وجوه بلادي، وشخصية تاريخية – روائية قريبة الشبه من تلك الشخصية الملحمية في عالم غابرييل غاريا ماركيز، حيث الجسد والروح، تاريخا وجغرافيا.
نشأ الرجل وترعرع بين جبال وسهول الريف، بعيدا عن "مدن الملح" والاسمنت المسلح. وما يزال إلى الآن مستقرا في مسقط رأسه ببلدة (لعسارة)، على بعد كيلومترات معدودة من (أنوال)، مهوى الفؤاد وعرين البطولات والأشبال. وظيفته هي "الأرض" فلاحة وزراعة، وعشقا ونجوى. لا يغادر فضاءه الأثير إلا لماما. ولا يعرف من مدن المغرب سوى اثنتين أو ثلاث. كما لا يعرف من بلدان العالم سوى شبه الجزيرة العربية، التي أدى فيه فريضة الحج، والتي يوليها وجهه خمس مرات في اليوم.
وأكثر زياراته إلى مدينة تطوان، حيث استقرت وانتشرت "سلالته". ومن عرس لأخر، ومأتم لآخر، يتوسط الرجل أبناءه وأحفاده وأحفاد أحفاده، كأنه "نوح" العائلة وربان سفينة.
وفي صيف هذا العام، ومع ذكرى أنوال بالتحديد (21 يوليوز)، زار سليل أنوال مدينة تطوان، ليحضر زواج أحد أحفاده. وأحببت أن أختلي به كالعادة خارج طقوس العائلة، وخارج "زفة" الأفراح والهموم الخاصة، لأرتحل معه بعيدا إلى "زفة" ذكرياته وتواريخه الخوالي، التي تنتمي إلى أدق مرحلة من تاريخ المغرب المعاصر، فكان لي معه هذا الحوار، أو بعبارة أدق، هذه الدردشة" التلقائية الحميمة التي يفيض فيه الرجل عن صميم مداركه ومشاعره، وصميم وعيه وإحساسه بالأشياء والأحداث، والتي حافظت فيها على تلقائيتها وحميميتها. إنها نوع من "الاسطوغرافية" الشفوية البسيطة، تجمع بين جيلين متباعدين زمانا، متلاحمين نبضا ووجدانا. ذلك هو الرجل، وهذا هو الحوار.
س.- جلستي معك هذه المرة أيها الجد، أريدها مفتوحة يشاركنا الناس في الاجتماع، فتحدثنا عن بعض ذكرياتك بشكل عام وذكرياتك مع الجهاد بكل خاص، وسينقل هذا الحديث مكتوبا إلى القراء، في إحدى جرائدنا الوطنية التي تحمل اسما عزيزا عليك هو (أنوال). وأريد أن يتم هذا الحديث ببساطة كعادتنا، فهل أنت موافق ومستعد؟
ج.- كل الموافقة وكل الاستعداد. ما تزال قدرتي على الكلام وعلى التذكر، بحمد الله، على خير. والحديث عن ذكريات الماضي في مثل سني يروح عن النفس كثيرا كما تعلم. إننا نحن الشيوخ لا نملك في النهاية غير هذا الماضي. لقد داخت رأسي في اليومين الفارطين في عرس ابن خالتك. كان الضجيج فوق ما أتصور وأطيق. وقد اشتقت فعلا إلى جلسة هادئة معك لنواصل الحديث عن أيام الجهاد. ليس هناك أحلى من الحديث عن أيام الجهاد. لقد سمعت أحد الفقهاء يقول إن من أصغى إلى حديث الجهاد كمن حضر بجسده في الجهاد. تريد أن تنشر كلامي في الجريدة؟ أنا لم أقرأ قط في حياتي جريدة. وها أنت تريدني أن أكون مقروءا فيها. فمرحى بهذه الدعوة، وشرف كبير لي أن أتحدث عن أنوال في جريدة بهذا الاسم. فجازاك الله وجازى جرائدنا خيرا على وفائها للماضي وإحيائها لأمجاده.
س.- ألم تتعلم القراءة والكتابة في حياتك الطويلة؟
ج.- لم تكن إمكانيات التعلم والتحصيل في عهدنا متوفرة ومتاحة كما هو الشأن الآن. كانت ظروفنا المعيشية واليومية صعبة ومتقشفة إذا قارناها بالتطور الذي حصل اليوم. ومع ذلك كانت الدنيا بخير، وكان الناس شبعانين وقانعين، راضين بما قسم لهم. أغلب الناس كانوا يشتغلون بالفلاحة والزراعة والرعي، كبارا وصغارا. كان هذا هو النشاط الأساس الذي يأخذ باهتمامنا وجهودنا. طبعا كانت هناك بعض الكتاتيب القرآنية في المساجد، أسستها وأشرفت عليها الجماعات. لكن دورها كان محدودا. وقد دخلت في طفولتي إلى الكتاب القرآني، لكن سرعان ما انقطعت عنه. وما حصلته من بضاعة قليلة في هذا الكتاب ضاع وتبدد مع الزمن. لست مسؤولا على ذلك، كما أني لست نادما. لأن الحياة مدرسة كبيرة، والتعليم لا ينحصر في الألواح والأوراق (ضحك). والبركة، على كل حال في الأولاد والأحفاد.
س.- بعد العيشة الطويلة والعافية السابغة، هل يستطيع الجد أن يحدد لنا عمره؟
ج.- لا أستطيع يا سيدنا أن أحدد لك بدقة عدد السنين التي أنعم الله بها علي في هذه الحياة، لأنه في عهدنا لم نكن نتوفر على أوراق رسمية تثبت الحالة المدنية لكل شخص أو عائلة، إلا في النادر. كان اعتمادنا على الذاكرة وعلى بعض الوقائع الخاصة والعامة، نؤرخ بها ولاداتنا ووفياتنا. ومع ذلك أستطيع أن أؤكد لك بأني قد استوفيت المائة. ومن المحتمل أن أكون قد تجاوزتها، والأعمار بيد الله، أولا وأخيرا.
س.- هذا العمر الطويل يجعل منك بدون شك، أحد المعمرين القلائل في بلدنا، وبورك لكم في هذا العمر الطويل. وقد عاصرت أحداثا خطيرة وحاسمة على الصعيد العالمي كما على الصعيد الوطني، فهل تتذكر أو تعرف شيئا عن هذه الأحداث؟
ج.- على صعيد الأحداث والوقائع العالمية، أصارحك القول بأني لا أعرف عنها شيئا كثيرا، أو ربما لا أعرف عنها شيئا بالمرة. لأن ظروفنا الاجتماعية والتاريخية الخاصة لم تكن تسمح لنا بالاتصال مع العالم الخارجي والتواصل معه. لم نكن نقرأ الجرائد ولم نكن نسمع الراديو ولم نكن نسافر إلى ما وراء جبال الريف. كانت حياتنا بدوية غاية في البساطة وكانت الجماعة أشبه ما تكون بالأسرة المغلقة المكتفية بذاتها، هذا لا يعني أن جميع الأهالي كانوا على جهل تام بما يحدث خارجيا. كان المتعلمون منا والتجار يتتبعون الأحداث ويتناقلونها، وبواسطتهم كنا نتسقط بعض الأخبار الجزئية عما يحدث في البلاد البعيدة، في الصين و"الروسيا" وبلاد "النصارى" (أوربا) ... وأيضا في فلسطين لكن من دون أن نكون على بينة مما يحدث، وأهم اسم كان يتردد على أسماعنا في عام 40، هو هتلر الذي كان يقود الحرب الكبرى ويريد القضاء على خصومه والسيطرة على العالم. بعض الأسماء الأخرى لم تحتفظ بها ذاكرتنا، إن ما كان يهمنا أساسا هو ما يحدث في بلدنا، هو الاستعمار الإسباني للشمال، والاستعمار الفرنسي للجنوب. ومن ثم كان شغلنا الشاغل هو الجهاد والبارود مع الإسبان، وكنا نتتبع أخبارهم وأسرارهم بدقة، لأنهم خصومنا وأعداؤنا المباشرون.
س.- أفتح معك الآن إذن ملف "الجهاد والبارود" على حد تعبيرك وأسألك، كيف كان لقاؤك الأول مع الجهاد؟
ج.- انخرطت في الجهاد لأول مرة في عام 1909، مع الحملة التي دعا إليها ونظمها الشريف محمد أمزيان. وهو الزعيم الثائر الذي خرج لأول مرة يدعو الناس ويجمعهم لخوض الجهاد والحرب ضد النصارى الإسبان.
س.- هل تتذكر صورة هذا الرجل؟ أريدك أن تحدثنا عنه قليلا قبل استرسالك.
ج.- ما تزال صورته مرتسمة في ذهني، رغم مضي السنوات الطوال على هذا الحقبة التاريخية. إنه وجه لا ينسى، أكيد أنه لا ينسى، كان متوسط القامة، ممتلئ الجسم في غير اكتناز، أبيض الوجه ملتحيه، كانت لحيته في هذه الفترة التي أتحدث لك عنها قصيرة قد بدأ الشيب يخالطها، وهي صورته الأخيرة في ذهني، وكان من عادته حين ينهي كلامه، أن يضع منديلا على فمه.
س.- لماذا ؟!
ج.- عادة، عادة من عوائده، أليس لكل شخص عوائده؟ (ضحك).
س.- معك الحق، هل كان الرجل متعلما؟
ج.- كان يقرأ ويكتب ويحفظ القرآن. ولكنه لم يكن فقيها متضلعا في العلم والقراءة. كان ينتمي إلى عائلة موسرة. وفي بداية حياته اشتغل بالفلاحة والزراعة في أملاك عائلته، وبعدئذ بدأ يشتغل بالتجارة، تجارة الأغنام والدواب، وكان يسافر كثيرا، خاصة إلى المغرب الشرقي والجزائر، وذلك قبل حملته وثورته.
س.- من أين هو بالضبط؟
ج.- من ازغنغان، من شرفاء ازغنغان، وما تزال عائلته مستوطنة في هذه البلدة ونواحيها، لقد كان شريفا ورجلا بكل معنى الكلمة. اشتهر بالاستقامة والسلوك المثالي حتى مع خصومه الإسبان، كما اشتهر بالشجاعة والاستماتة في الدفاع عن حرمة الدين والأرض، حتى سقط شهيدا في المعركة، لم يرجع أو يتقهقر قط إلى الوراء، كان دائما أمامنا يقودنا بنفسه ليلا ونهارا. كان يجمعنا ليلا، فيحمسنا ويدعونا لمحاربة (بويْجَرْوان)، والخروج إليهم في الغداة.
س.- ومن هم (بويْجَرْوان)؟
ج.- هو الاسم الذي يطلق بالريفية على الإسبان. و(إيجَرْوان) معناها الضفادع. الشريف أمزيان لم يكن يسمي هؤلاء بغير هذا الاسم ، نحن المجاهدين أيضا.
س.- وما علة تسميتهم بـ (بويجاروان)؟
ج.- لأنهم كانوا يأكلون الضفادع، كانوا يقلون الضفادع ويشوونها كالسمك، والعياذ بالله. وقد زينت لهم أحلامهم القصيرة أنهم سيقضمون رجالات الريف كما يقضمون ضفادعه. وما دروا أن هذه الأكلة ستقف غصة في حلوقهم وستعود عليهم بأوخم العواقب. لقد كان الشريف أمزيان، كما قلت لك، يدعونا ليلا لجهادهم، وبعد المشاورة والتخطيط واتفاق الكلمة، يركب فرسه ونتبعه في حوالي 50 او 60 أو أكثر من المجاهدين، وقد امتلأت الصدور بالغيرة والحماس. نتجه متخفين إلى هذه الثكنة أو تلك، فنهجم عليها حتى تستسلم أو نناوشها ونرشقها بالسلاح ثم نعود إذا استعصت. كانت هذه طريقتنا الجهادية، خاصة في المرحلة الأولى.
س.- تقصد في 1909؟
ج.- أجل في 1909، في بداية الثورة الفعلية، كان الجيش الإسباني قد بدأ يزحف على الريف في هذا التاريخ، وأخذت قواته في الانتشار هنا وهناك، انطلاقا من معقله التاريخي، مليلية، اخترق بادئ الأمر "ديوانة" (بني أنصار) حتى وصل إلى الناضور، بعد اصطدامات ومواجهات عنيفة مع سكان قلعية. ومنذ هذا الزحف بدأت حركة الجهاد تشتد وتتسارع، فكان الجيش الإسباني يتقدم تارة ويتقهقر أخرى بحسب تقدم أو تقهقر المجاهدين. كان الجيش الإسباني يتحرك في الغالب مع بداية شهر أبريل. أي مع إطلالة فصل الربيع، وفي فصل الشتاء ينحسر ويتراجع ولا يخرج قط. لقد كان كالنمل، يعمل صيفا ويستريح ويتربص شتاء، وظلت الحرب بيننا وبين الإسبان على هذا النحو سجالا. تعتمد الكر والفر والهجوم والدفاع، من هذا الموقع إلى ذاك ومن هذه الواقعة إلى تلك، إلى أن احتلوا ازغنغان في 1911. وازغنغان كما ذكرت لك هي بلدة الشريف أمزيان. ومن ثم اشتد البارود وحميت نار الجهاد، ونظم الشريف صفوف المجاهدين واتخذ من (جنادة) رباطا ومركزا لهم.
س.- أين تقع (جنادة) هذه؟
ج.- تقع عند ملتقى قبيلتي قلعية وبني سعيد، على ضفة نهر كورت، وعلى مقربة من كبدانة، منها كنا ننطلق وإليها كنا نعود، وفيها أسس الشريف مسجدا ما يزال موجودا إلى الآن. وقد جرت في هذا الموقع معارك طاحنة على امتداد عامي 12-1913، تكبد فيها الإسبان تضحيات وخسائر جسيمة، وفقدوا كثيرا من رؤوسهم العسكرية. ولم يجل عنها المجاهدون إلا بعد صراع مرير. فاتجهنا إلى منطقة (إزحافن)، حيث دارت آخر المعارك، واستشهد الشريف امزيان، وكان ذلك في صيف 1913.
س.- كيف استشهد الشريف امزيان، هل تتذكر شيئا عن نهايته؟
ج.- سقط في ميدان المعركة ليلا وهو على فرسه في أعقاب أحد الهجومات الإسبانية المكثفة، كان فرسه يتجول لوحده وبلا فارسه في الميدان، فعلم المجاهدون أن الشريف قد كتب مع الصديقين والشهداء. وقد أذهلتنا المفاجأة عن جثمانه الكريم، فأخذه الإسبان إلى مليلية وعرضوه على الناس في المستشفى وصوروه ثم ردوه إلى أهله وذويه ليدفن وفق الشعائر الإسلامية، وقد دفن في مسقط رأسه بازغنغان، وبنوا له ضريحا. تغمره الله بواسع رحمته.
س.- كيف كانت تجربتك الخاصة مع الحرب، وأي سلاح كنت تستعمل؟
ج.- كنت أحارب ببندقية رباعية ثم خماسية، وهما سلاحان إسبانيان. أول رباعية امتلكتها كنت قد اشتريتها ب 30 "دورو" . وكانت عزيزة علي، وطيلة السنوات الأربع من 1909 إلى 1913، وانا مع المجاهدين وراء الشريف أمزيان. لم تمر موقعة أو حملة دون أن أشارك فيها. وإذا صادف أن كنت غائبا ودعا داعي الجهاد، كانوا يرسلون إلي فألبي الدعوة حالا. وكانت ضرباتي ولا مبالغة، لاتخطئ الهدف. يعترف بهذا كل من شارك معنا في الجهاد. وحتى الشريف أمزيان نفسه عليه رحمة الله، كان يعترف لي بهذا، لقد كان في عز شبابه وفتوته رجلا تتغنى ببطولاته الجرائد والحسان (ضحك . ضحك.).
س.- بورك فيك. هل كنت في هذه الأثناء متزوجا؟
ج.- كنت حديث العهد بالزواج. وفي زمننا كنا نتزوج مبكرا وبمجرد وصولنا سن البلوغ. ولم يكن الزواج بالنسبة إلي قيدا، فتزوجت الجهاد إذ ما قيمة الزواج والأرض نهب للأعادي وخارجة من عصمة أهلها.
س.- لنتقدم خطوة أخرى في حديثنا أيها الجد، ولنربط حلقات الماضي دون أن نخرج عن سياق الجهاد والبارود، فأسألك، هل كان بين الشريف محمد أمزيان وعبد الكريم الخطابي سابق معرفة؟
ج.- في هذه الفترة التي أتحدث لك عنها من 1909 إلى 1913، لم يكن قد ظهر لأبن عبد الكريم الخطابي أثر ولا خبر. لم يكن يعرفه أحد بعد. كان الناس
يتسامعون باسم والده عبد الكريم الذي يقوم بحملات تنويرية وجهادية متقطعة في قبيلة بني ورياغل. لكن اسم ابنه محمد، لم يكن قد طرق الأسماع بعد. محمد بن عبد الكريم لم يظهر بصورة رسمية وعلنية إلا في 1920، ولا أظن أنه كانت بين الرجلين، الشريف أمزيان وابن عبد الكريم صلات شخصية مباشرة، وإن جمعتهما الصلة الروحية، صلة الجهاد في سبيل الله والوطن. فأولهما مقدمة للثاني، وثانيهما تتمة ونتيجة للأول. ولم تتوقف حركة الجهاد بين 1913 تاريخ استشهاد الشريف و1920 تاريخ ظهور ابن عبد الكريم. بل استمرت بشكل متقطع وتلقائي، ولم يلق المجاهدون السلاح نهائيا. لكن كان ينقصهم التنظيم، كان ينقصهم القائد الجديد الذي يجمع صفوفهم، ويوجه خطاهم، ويقود ثورتهم. وقد جاء ابن عبد الكريم في الوقت المناسب، في 1920، ليقوم بدور هذا القائد. وقد قام بهذا الدور بشكل بطولي كما يعرف الجميع.
س.- أتوقف معك هنا عند اسم هذا البطل، فتارة يسمى عبد الكريم الخطابي وهو الاسم المتداول، وتارة يسمى محمد عبد الكريم الخطابي، وهو الاسم الحقيقي، ما علة هذا التداخل بين الاسمين؟
ج.- التداخل آت من كون الرجلين، الأب والابن، كانا مجاهدين، ولما مات الأب، عبد الكريم، بقيت ذكراه عالقة بالنفوس والأسماع، فأطلقوا اسمه على ابنه البطل الذي كان خير خلف لخير سلف. جمعوا بين الأب والابن في شخص واحد واسم واحد. وقد كان بنو ورياغل يسمونه (الفقيه)، لأنه كان عالما وقاضيا. فقد درس في فاس كما درس في مدريد، صحبة شقيقه امحمد، وقليل من كان يحظى بهذا الامتياز في الريف. أما نحن فكنا نسميه ابن عبد الكريم، جامعين في هذا الاسم بينه وبين أبيه. وحين شرع في تنظيم المجاهدين وإشعال الثورة الريفية، كان هذا هو الاسم الذي يتردد بيننا: من دعا إلى هذا ؟ ابن عبد الكريم. من قام بهذا ؟ ابن عبد الكريم ..
س.- وصفة الأمير، كيف أطلقت عليه؟
ج.- أطلقت عليه بعد أن دوى اسمه في الآفاق، وحاز مع المجاهدين انتصارات باهرة على الإسبان. أي في الفترة التي تلت معركة أنوال، حين بدأ ينظم الحياة العسكرية والمدينة والسياسية في الريف، ويصدر التوجيهات والأوامر، حينئذ سمي أميرا، لكن الاسم الذي كنا نتداوله، هو ابن عبد الكريم، أو عبد الكريم.
س.- ها نحن نفتح ملفا جهاديا آخر لا يقل سخونة، وقد جرفنا حديث الذكريات والبطولات دون أن ندري، ونسيت أن أسألك أيها الجد هل تريد أن تستريح قليلا وتتخفف من عبء أسئلتي. فمعذرة عن هذه الهفوة، وفي إمكانك أن تستريح إذا شئت، ثم نعود إلى حديث الذكريات والبطولات.
( تتفتح أسارير الجد عن ابتسامة ساخرة توشك أن تصير ضحكة مسموعة. ويرشف من كأس الشاي رشفتين طويلتين، ثم يجيب)
ج.- أبدا، أبدا. لا تعب ولا يحزنون. كيف يتعب من الكلام من كان لا يتعب من الجهاد؟ إلا أن تكون قد تعبت أنت؟ واصل، واصل حديثك يا سيدنا ...
س.- لنستأنف حديثنا، إذن، عن عبد الكريم كيف ظهر الرجل وكيف اتصلت بثورته؟
ج.- ظهر كما قلت في 1920 بشكل علني ومباشر، بعد أن استوفى بالطبع حملة التعبئة والتحريض والدعوة للجهاد ، كان الإسبان قد سيطروا في أعقاب استشهاد الشريف أمزيان على كثير من قبائل الريف. سيطروا على مطالسة، وتفريست، وقلعية، وبني سعيد، وبني توزين، وغيرها... وسيطروا علينا في بني وليشك في 1920، كنا آخر قبيلة يسيطر عليها الإسبان. سيطروا علينا في أكتوبر 1920. وبعد هذا التاريخ مباشرة زحف الإسبان إلى أنوال وسيطروا عليه.
س.- أين يقع أنوال، وعلى أية قبيلة يحسب؟
ج.- يقع على الحدود بين قبيلتي بني وليشك وتمسمان، ويحسب على القبيلة الأولى. وهو قريب من مسقط رأسي (لعسارة) وقريب من الناظور، وهو عبارة عن سهل خصيب تحرسه الجبال. ونظرا لموقعه الجيد ولوجوده على مسافة من مليلية، كان يعتبر عند الإسبان مركزا عسكريا مهما ومشهورا.
س.- كيف كان هذا الموقع في ذلك الوقت؟ هل كان فيه سكان أو عمران مثلا؟
ج.- لم يكن سوى مدشر كباقي المداشر المنتشرة في قبائل الريف. مدشر صغير تسكنه عائلات محدودة العدد والإمكانيات، تسكن في دور ريفية وتقليدية متجاورة، وتعيش على الفلاحة والزراعة. فقد اشتهر انوال بوفرة مياهه التي تتدفق عليه من الجبال والهضاب. سيطر الإسبان على أنوال في 1920 وعسكروا فيه بجيوشهم الجرارة التي كان يبلغ تعدادها حوالي 35.000 جندي. وبعد أن أحكموا عليه سيطرتهم وفد عليهم بعض الخونة والعملاء من أعيان تمسمان واقترحوا عليهم ان يوجهوا جيوشهم شطر تمسمان للاستيلاء عليها. كان هؤلاء الاعيان يتسابقون إلى الإسبان ويرحبون بهم طمعا في الزعامة والحكم. وبفضلهم استولى الإسبان على جزء من تمسمان وعسكروا في مكان يسمى (ظهر أبارّنْ). وهو مكان ظليل وجميل يشرف على البحر، وكان ذلك في ربيع 1921، ولا أنسى أن أشير هنا إلى أن هذا المكان كان من قبل في حوزة المجاهدين، كان رباطا لهم. وبعد الاستيلاء عليه اشتعلت حركة الجهاد والمقاومة، وظهر عبد الكريم بشكل فعلي وملحوظ. ظهر في تمسمان ذاتها، وفي مكان يسمى (أرقامث) تحيط به الجبال. كان جادا وماضيا في تعبئة الناس والدعوة إلى الجهاد، وتقاطر إليه الناس من كل فج بعد أن انتشرت دعوته في القبائل.
س.- هل هذه هي بداية اتصالك بثورة عبد الكريم؟
ج.- نعم، في هذه الأثناء كنت قد انخرطت فعليا في الثورة والجهاد، لقد كانت المنطقة التي تحرك منها الجهاد قريبة منا، وكان الجهاد فريضة علينا، وبالتالي ألغيت فريضة الحج، لصالح الفريضة الأولى.
س.- واصل حديثك، إذن.
ج.- في (أرقامث) بتمسمان جمع عبد الكريم خلقا كثيرا من المجاهدين والمتطوعين. وجاءه جم غفير من بني ورياغل. وكان الإسبان يحشدون جيوشهم وقواتهم في المركز المقابل (ظهر اباري). وخطب عبد الكريم في المجاهدين قائلا، ينبغي تصفية هذا المركز حالا، وخير البر عاجله، وكانت موقعة (ظهر اباري) المعروفة وسيطرة المجاهدين على تمسمان، امتدت المعركة من الظهر إلى الغروب، وجلا الإسبان عن الموقع تاركين أعدادا لا تحصى من الضحايا والأعتدة والخيام والبغال والمؤن...
س.- أين نزح الإسبان بعد هذه الموقعة؟
ج.- نزحوا إلى (ظهر أمزوج)، وعسكروا في مركز لهم هناك بـ (آيت عزة)، قريبا من أنوال.
س.- قلت سابقا بأن بعض العملاء من أعيان ورؤوس تمسمان كانوا متعاونين مع الإسبان، فهل كانوا يحاربون في صفوفه؟
ج.- كان بعضهم يحارب ميدانيا مع الإسبان، لكن مهمتهم الأساسية كانت هي الجاسوسية والتموين، كان الإسبان يخصصون لهم شهرية (أجرة)، واشترطوا عليهم في مقابل ذلك أن يزودوهم بالمؤن والمواد الغذائية، كعملاء مرتزقة، كانوا يعينون من كل جماعة اثنين من الأعيان يتكلفان ببعيرين من المؤن، بعيرين لكل واحد، يحملان هذه المؤن من دار الدريوش إلى بنطيب ومن بنطيب إلى أنوال. كان مرتزقة مطالسة يحملون هذه المؤن من دار الدريوش إلى بنطيب. ومرتزقة بني وليشك يحملونها من بنطيب إلى انوال. وكان هؤلاء المرتزقة يتنافسون فيما بينهم حول هذه المأمورية، طبعا في 30 دورو.
س.- ماذا كان يحمل هؤلاء على الجمال؟
ج.- المؤن والأقوات الضرورية، كاللوبياء والحمص والعدس والدقيق والبطاطس والبيض والسمن إلخ ... كانوا يحملونها على الجمال، وأحيانا على البغال.
س.- نعود إلى موضوعنا وخيطه الرابط، عبد الكريم.
ج.- تمركز عبد الكريم مع المجاهدين بعد ذلك في (إمزَّاورو) بتمسمان دائما. أعاد التعبئة والتنظيم من جديد، وقد امتلأت النفوس بنشوة الانتصار وحماسه. وكان الهدف الثاني مركز (آيت أُعَزَّ) على مسافة من أنوال، المركز الحيوي الرئيس. وفرض على كل جماعة عددا من الفؤوس والرفوش (البالات)، لحفر الخنادق والاخاديد، كان ذلك مع بداية صيف 1921. جمعت الفؤوس والرفوش وحسبت بدقة، وشرع في الحفر، كانت عملية الحفر تتم في الغالب ليلا، بأمر من عبد الكريم، صاحب الخطة. وفي ليلة مقمرة، حوصر مركز (أيت أعز) وخطب عبد الكريم في المجاهدين قائلا، ليكن مصير هذا المركز نفس مصير سابقه (ظهر أباري). كان المجاهدون معتصمين بخنادقهم المحفورة ومعهم أسلحتهم ومؤنهم، والحرارة في أوجها. واندلع البارود ، اندلع قويا ومتواصلا. طق. طق. طق. طيلة ثلاثة أيام، كان المجاهدون قد قطعوا طرق التموين والإمدادات على العدو، فحار الجيش الإسباني بضباطه وقادته الكبار، اختلط حابلهم بنابلهم، وسقط منهم كثير من الضحايا، ولم يجدوا في الأخير مناصا من التراجع والتقهقر نحو انوال. وهكذا سقط مركز (آيت أعز) في أيدي المجاهدين . ولم يبق ثمة غير المركز العتيد، أنوال، على مد البصر.
س.- هل كان عبد الكريم يحارب معكم بنفسه؟
ج.- كل الأوامر والتوجيهات كانت صادرة منه، عملية حفر الخنادق كانت ابتكاره واجتهاده، ولم يكشف لنا عنها حتى جمعت الفؤوس والرفوش، كان يخطط للعمليات الحربية ويتابعها بالمقراب (المكبر)، ويمر على الخنادق متفقدا ومتحمسا لقد قيل لنا بعدئذ إن هذه العملية استوحاها من التاريخ الإسلامي ومن حرب رسول الله (ص) مع الكفار..
س.- لنستكمل قصة انوال.
ج.- كان طول الخنادق التي حفرها المجاهدون يتجاوز 10 كلم. وبعد سقوط (آيت أعز)، بدأ المجاهدون يخرجون من خنادقهم، وحاصروا أنوال وأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم. كانت طرق التموين والإمداد قد قطعت على العدو، والوقت في عز الصيف. فحشد الإسبان قواتهم وحشودهم المكونة من الفرسان والمشاة، وكانوا يقدمون بعض المرتزقة حفاظا على الجنود الإسبان. وابتدأت المعركة يوم الثلاثاء والبارود على أشده، وبدأ الذعر يدب في صفوف الجيش الإسباني من ضراوة المعركة وتراكم ضحاياه. فرفعوا الراية البيضاء طلبا لإيقاف الحرب والتفاوض السلمي. كانت حيلة خبيثة وغبية من طرفهم، فبعث إليهم عبد الكريم بمجموعة من المجاهدين للتفاوض واستطلاع الأمر. لكن الكفار بالله قتلوهم ورجعوا للحرب، فثار ثائر المجاهدين واشتد الهجوم والقتال. ابتدأت المعركة يوم الثلاثاء، واستمرت على أشدها يوم الأربعاء ويوم الخميس، وفي يوم الجمعة المبارك انهزم الإسبان بعد أن مات منهم خلق كثير كثير، وانتحر كبيرهم سلفستري. وارتفع نداء (الله اكبر) في سماء أنوال. كانت الأرض مزروعة بالجثث والأوحال. ومن بقي حيا استسلم أو فر متخفيا إلى مليلية .. كان ذلك في يوليوز من عام 1921.
س.- هل كان هناك أسرى إسبان؟
ج.- وقع في يد المجاهدين عدد كبير من الأسرى، سواء في معركة أنوال أو في المعارك السابقة واللاحقة. وقد وضعهم عبد الكريم في حبس خاص، وبقوا تحت يده مدة من الزمن، وكانت تأتي هؤلاء الأسرى أجور من طرف الإسبان لإعالتهم، وأحيانا كانت عائلات الأسرى تمد هؤلاء بما يحتاجون إليه. وهناك شيء لا بأس من الإشارة إليه بخصوص هؤلاء الأسرى، وهو أن عددهم كان ينقص بين الحين والآخر، وسبب ذلك أن بعض الحراس من بني ورياغل كانوا يبيعون هؤلاء الأسرى لذويهم مقابل أموال مغرية، وحتى بعض الأموال التي كانت ترسل إليهم كانت تنقص أو تسرق أحيانا. وقد كان عبد الكريم صارما وحازما فعاقب كثيرا من المتلاعبين.
س.- والإسبان، ألم يكن لهم أسرى مغاربة؟
ج.- هم أيضا كان لهم أسرى، لقد احتجزوا كثيرا من الأسرى المسلمين في مليلية، وكل مسلم كان خاضعا لحكم الإسبان يعتبر داخلا في عداد الأسر، بعد ذلك قامت مفاوضات بين عبد الكريم والإسبان لافتداء وتبادل الأسرى، وقد اشترط عبد الكريم على الإسبان ليستلموا أسراهم، أن يطلقوا سراح جميع الأسرى المسلمين وأن يدفعوا له مقادير مالية مهمة كانت تصل إلى بضعة ملايين دورو، كما اشترط أن تكون هذه الاموال فضية لا ورقية.
س.- بالنسبة إليك، هل سبق لك أن أسرت جنودا إسبانيين؟
ج.- نعم، أسرت منهم مجموعة، حوالي 25 جنديا، وهو ما يشكل تريسيو (فرقة). وكنا ننزع منهم السلاح ثم نسلمهم إلى عبد الكريم.
س.- وجرحى الحرب من المجاهدين، كيف كانوا يداوون؟
ج.- في الغالب كان الجرحى يؤخذون إلى أهلهم، نظرا لعدم توفر إمكانات العلاج، ولدقة وصعوبة ظروف الحرب، أما الشهداء فكنا ندفنهم بثيابهم ونصلي عليهم، وقد جرح ومات من المجاهدين الذين كانوا معي بضعة أفراد بين عامي 24 و 1925. كان عبد الكريم قد عينني في هذه الأثناء قائدا للمائة ثم قائدا للمائتين. وأذكر أنه في (تاونات)، وكنت قائدا لمائتي مجاهد، مات من رجالي اثنان وجرح ثلاثة أمرت بإرجاعهم إلى أهلهم مع بعض المرافقين.
س.- وصلت حتى تاونات؟
ج.- أجل، وقد بقينا فيها 35 يوما، بعد موقعة أنوال الحاسمة اشتد ساعد الثورة الريفية وامتدت إلى "الحدود الفرنسية"، وإلى مناطق جبالة حتى (دار ابن قريش) على مشارف تطوان. وكانت ظروف جهادنا في تاونات قاسية وصعبة، لعدم معرفتنا الكافية بالأرض والناس. كان اعداؤنا أشداء، كانوا طوالا وقساة أغلبهم من (الساليغان) يعملون تحت قيادة الجيش الفرنسي، وفي تاونات جرحت لأول مرة من طرف هؤلاء (الساليغان). علما بأني لم أجرح قط في أية معركة من المعارك السابقة التي خضتها.
س.- في أي مكان من جسمك جرحت؟
ج.- جرحت تحت إبطي، وكان جرحا بسيطا بفضل الله ولطفه.
س.- قلت بان عبد الكريم عينك قائدا للمجاهدين بعد موقعة أنوال، التي دشنت مرحلة جديدة للثورة الريفية، فكيف كان يتم التواصل بين القاعدة والقمة، بينكم وبين عبد الكريم؟
ج.- كان عبد الكريم يختار قادته من ذوي التجربة والمراس. يدعوهم ويستقبلهم ويختبرهم شخصيا وبذكاء، ثم يسند إليهم مهامهم. وكان يشترط على قادته أن يختاروا بدورهم الرجال الأكفاء، الصامدين الصابرين، كنت اختار الرجال الأكفاء من قبيلتي، وأقيدهم في لائحة أبعث بها إلى عبد الكريم، على غرار القادة الآخرين، وكنا لا نتحرك إلا بإذن منه.
س.- هل كنت تتصل شخصيا بعبد الكريم؟
ج.- كنت اتصل به مرارا وتكرارا، أحيانا كنت اتصل به يوميا، كما يتصل به غيري من المجاهدين، وهو الذي كان يبادر إلى الاتصال بالناس والسهر عليهم شخصيا، باعتباره قائدا. لقد كان بسيطا وعاديا، لكن شخصيته ونظراته كانت قوية ونافذة.

س.- وهل كان له حراس؟
ج.- طبعا كان له حراس، وهل تتوقع لشخص زلزل دولتين استعماريتين وأثار انتباه العالم، أن يتحرك بلا حماية ولا حراس؟ كان له حراس من قبيلة بني ورياغل، اذكر منهم بنعودة، وموح ازري، وكنت أعرفهما جيدا.
س.- وأية وسيلة كان يستعمل في تنقله؟
ج.- كانت له سيارة صغيرة بيضاء من النوع القديم في أجدير، قليلا ما كان يستعملها لانعدام الطرق المعبدة، ولم يكن يقودها بنفسه بل كان له سائق من بقيوة، وفي معظم تنقلاته وتحركاته كان يستعمل في ركوبه الفرس، كان له فرس أسود رشيق أخذه من أحد القواد المتعاونين سابقا مع الإسبان في بني سعيد، وهذا الفرس كان قد أهداه الإسبان لذلك القائد جزاء خدماته، وأهداه بدوره إلى عبد الكريم، بعد ان تاب وأناب.
س.- بأي اسم كان يدعوك عبد الكريم؟
ج.- كان يدعوني بالقائد، القائد محمد علال.
س.- وهل كان يعطيكم أجورا، باعتباركم قوادا؟
ج.- لم نكن نستلم منه أجورا، ومن حين لآخر، كان يقدم لنا بعض المعونات، وحينما كنت في تاونات أعطى لي 150 ريالا عزيزية (نسبة إلى السلطان المولى عبد العزيز).
س.- والمجاهدون؟
ج.- المجاهدون كانوا متطوعين في سبيل الله والوطن. وكل مجاهد يتكفل بمؤونته غذاء ولباسا. كان الخير موجودا رغم ظروف الحرب. أما السلاح فقد كان يتكفل به عبد الكريم، بندقية وثلاث علب من الرصاص لكل مجاهد. وحين يشتد الجهاد كان عبد الكريم يتكفل بالسلاح والغذاء معا عن طريق الجماعات.
س.- يتبادر إلى ذهني الآن سؤال حول دور النساء في الثورة الريفية. هل كن يشاركن في الحرب ويساعدن المجاهدين؟
ج.- النساء لم يكن يخرجن أبدا إلى الحرب. كانت مهمتهن طبخ الخبز للمجاهدين وإعداد المؤن، ومداواة الجرحى في دورهن، وكان من حق المجاهد أن يزور أهله في إجازة لا تتعدى أسبوعا، وعن طريق التناوب، هذا في فترات الهدنة وتراخي الجهاد، أما في فترات الحرب واحتدام الجهاد، فقد كان المجاهدون مرابطين في أماكنهم باستمرار.
سؤالي الأخير لك أيها الجد، بعد عميق شكري وامتناني وتقديري لك، على هذا الحديث الممتع المفيد، هو هل سبق أن احتجزك أو آذاك الإسبان، سواء أثناء الثورة الريفية أو بعدها حين أطبق الأعداء على قائدها البطل عبد الكريم؟
ج.- لقد حرستني العناية الإلهية دائما في لحظات الشدة والضراء، فخرجت منها بحمد الله ظافرا سالما، لم يمسسني سوء أو مكروه. وبعد أن انتهى الجهاد وعاد النفوذ الإسباني إلى الريف أقوى مما كان عليه، بفضل مساعدة الفرنسيين، احترمنا الإسبان ولم يؤذونا لا في أرواحنا ولا في ممتلكاتنا، رغم محاولات بعض الجواسيس والعملاء الإيقاع بي عندهم. وها أنت ذا تراني وقد نيفت على المائة، وما أزال بحمد الله سليما معافى في جسدي وكرامتي، فشكرا لله وحمدا على نعمه وألطافه. وتغمد الله شهداءنا الأبرار بواسع رحماته.
في هذه اللحظات، كان المؤذن يؤذن لصلاة العشاء، فسكت الجد عن الكلام المباح، وأظلته سحابة من الصمت والإطراق .. وشيء عميق لم أستكنه له غررا . فنهض متثاقلا على جسده الذي أثقلته السنون والذكريات، وانتصب واقفا على سجادة الصلاة، ليعقد حوارا آخر، مع السماء.